القول الرابع في المحو والإثبات: وهو أنه يكون في صحف الملائكة، وقد قيل في قوله تعالى: ((هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] أن معناه: كنا ننقله من اللوح المحفوظ، والإشكال هو أنه: ما دامت الملائكة تنقل من اللوح المحفوظ، فكيف يكون المحو والتغيير واللوح المحفوظ لا محو فيه ولا تغيير؟!
الجواب: أن الملائكة تكتب ما يعمله العبد طبقاً لما تراه، لا نقلاً عن اللوح المحفوظ، لكن إذا رفعت الأقلام وجفت الصحف وطويت، فإنها تطوى مطابقة لما في اللوح المحفوظ، ولهذا يوجد من تكتب له الملائكة الطاعات وتظن -كالبشر- أنه قد يموت على هذه الطاعات، ولكنه في اللوح المحفوظ مكتوب في ديوان الشقاوة والعياذ بالله؛ فيختم له بذلك، ويمحى ما كتبته الملائكة له من أعمال الخير، ويثبت في ديوان الشقاوة، وتطوى صحيفته بحسب ما في أم الكتاب.
وهذا معنى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: { فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها } فصحف الملائكة وما تكتبه فيها ليس من القدر في شيء، وإنما هي تكتب أعمالنا، بخلاف الملك الذي ينفخ الروح، فإنه يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، فهذا قدر، أما ما تكتبه الملائكة فهو الواقع الموجود، فإن صلّى العبد كتبوا أنه صلى، وإن زنى كتبوا أنه زنى عياذاً بالله، وهذا الواقع قد يقتضي السعادة وقد يقتضي الشقاوة، وقد تكتب الملائكة أنه زنى وسرق وفعل وفعل، لكنه عند الله تعالى من السعداء، كالرجل الذي قتل مائة نفس، ثم بعد ذلك تاب الله سبحانه وتعالى عليه.
وكم من رجل كان يعمل في ظاهره بالخير والصلاح، ثم كتبت له سوء الخاتمة..! أعاذنا الله وإياكم من ذلك..!
وهناك الذين يظلمون ويغتابون الناس، ويؤذون خلق الله، تكتب لهم الملائكة صلواتهم وصدقاتهم وأعمال برهم؛ ويأتي أحدهم يوم القيامة وله حسنات كالجبال، لكنه هو المفلس كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أتدرون من المفلس؟} وذلك أنه يأتي وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا.. وكلها مظالم للعباد، فما بينه وبين الله حسنات، لكن ما بينه وبين العباد مظالم وسيئات؛ فيؤخذ من هذه الحسنات يوم القيامة ويعطى لأولئك الخصوم المظلومين، حتى إذا ما نفدت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه.
فقد تكتب الملائكة حسنات وتكون النهاية شقاءً، وقد تكتب سيئات وتكون النهاية سعادة، وهذا شيء آخر ولا علاقة تلازمية بينهما.
فهذا الإشكال كيف تستنسخ الملائكة من اللوح المحفوظ، ومع ذلك نقول: إنه لا تغيير ولا تبديل في اللوح المحفوظ، مع وقوع التغيير والتبديل فيما تكتبه الملائكة؟! نقول في الجواب عنه: إن هذا إذا طويت الصحيفة وانتهت، وهذا الخطاب للكفار إنما هو يوم القيامة وقد طويت صحائفهم، وكتبت عليهم الشقاوة؛ فتشهد عليهم الملائكة بما كتبت في هذه الصحف المسطورة، فلا إشكال ولا تعارض إن شاء الله.